المعلومة الاستخباراتية مفتاح مكافحة الإرهاب
محمد أبويهدة
صحافي، عضو المرصد المغربي حول التطرف العنيف
الدور الذي لعبه المغرب في سقوط الجندي الأمريكي المتطرف كول جيمس بريدجيز، يؤكد مستوى العمل الأمني المنخرط في مكافحة الإرهاب محليا وإقليميا ودوليا، وهو ترجمة للمجهود الأمني المبذول على مستوى تطوير أساليب التحقيق والتحريات والتتبع والمراقبة واستثمار التكنولوجيا الحديثة.
منذ تفجيرات 11 شتنبر 2001 انخرط المغرب في الجهود الدولية لمكافحة الإرهاب سواء عبر تبادل معلومات تتعلق بنشاطات العناصر المتطرفة أو رصد تحركات الخلايا الإرهابية على الصعيد الإقليمي والدولي لاسيما في بؤر التوتر أو تعقب أثر الأسلحة والمتفجرات ومسارات المقاتلين الأجانب والعابرين للحدود أو مواكبة الطفرة المرتبطة باستعمال الأسلحة البيولوجية في الاعتداءات الإرهابية أو من خلال محاصرة الاستراتيجيات المنسقة بشكل جماعي والفردية كذلك لتنفيذ الأعمال التخريبية. اليوم أصبحت الأجهزة الأمنية عنصرا أساسيا في حل الكثير من المعادلات الإرهابية.
من جمع المعلومة إلى التحليل
انخراط الأجهزة الأمنية اليومي في مكافحة الإرهاب انطلاقا من الانكباب على متابعة الخلايا المحلية لم يمنع السلطات الأمنية من التعاون مع كل الدول التي تعاني من هذه الظاهرة، خاصة أن التجربة المغربية التي تطورت غداة تفجيرات الدارالبيضاء سنة 2003 مكنت من بلورة العديد من طرق الاشتغال المنسق، التي تعتمد قاعدة البيانات والمعلومات، كركيزة أساسية في مواجهة الإرهاب.
لم تنطلق مصالح الأمن من فراغ، فتتبع العناصر المتطرفة بدأ منذ عودة المقاتلين المغاربة من ساحة الصراع في أفغانستان. كانت هناك مئات المعطيات الشخصية عن المقاتلين وعن مساراتهم وعن شبكات علاقاتهم المحلية والدولية وعن معارفهم وعن درجة تمكنهم من استعمال السلاح والمتفجرات وموقعهم في التنظيم، لكنها كانت معطيات أولية ومتفرقة بين عدة أجهزة ومصالح، مما كان يفقد لهذه المعلومات قيمتها الميدانية.
بالمقابل شكل المقاتلون العائدون من الساحة الأفغانية والباكستانية مرجعا «عمليا» للمتطرفين الذين تم استقطابهم إلى حلقات المنظرين للوهابية، والذين سيشكلون فيما بعد الجماعات المنضوية تحت لواء السلفية الجهادية التي تورطت في جرائم قتل ونهب وسلب باسم الدين والتعزير.
بدأت وتيرة نشاط عناصر السلفية الجهادية تتطور بشكل متسارع قبل تفجيرات الدارالبيضاء، لكن بعض جرائمهم تعامل معها القانون على أنها جرائم عادية من جرائم الحق العام، لاسيما بالنسبة للعناصر المجندة من طرف يوسف فكري والميلودي زكريا وآخرين من أمراء الدم.
بعد الاعتداءات، التي شهدتها خمسة مواقع بالدارالبيضاء، والتي نفذتها كتبية الانتحاريين تم تحيين المعلومات السابقة وتحليلها، وبذلك توسعت دائرة المطاردة لتطال المئات من المشتبه فيهم الذي ظلوا يعملون في الظل. اشتغلت مصالح الأمن في البداية على المعلومات، التي كانت تتوفر عليها السلطات المحلية، والتي شكل عمودها الفقري أعوان ورجال السلطة ثم بعد ذلك مصالح الاستعلامات العامة ومديرية مراقبة التراب الوطني، كانت الآلاف من المعلومات الخام تحتاج إلى ترتيب وتنظيم وتحليل لربط خيوط الاعتداءات ومن وراءها.
بعد التحقيق مع العشرات من عناصر الخلايا الإرهابية والمتطرفين والمشتبه فيهم من طرف عناصر الشرطة القضائية الذين وجدوا أنفسهم للمرة الأولى أمام خطر من نوع جديد، تشكل مستوى جديدا من القاعدة الأساسية للمعلومات وهي قاعدة البيانات التوقعية، والتي تسمح بتكوين صورة واضحة عن خطر مستقبلي يجب التصدي له.
عند هذا المستوى برزت داخل الأجهزة الأمنية نخبة من رجال الأمن ممن انكبوا على الاشتغال على المعطيات المجمعة وتحليلها وفق أساليب حديثة تبحث في خلفية المشتبه فيهم وأوضاعهم الاجتماعية وارتباطاتهم وتكوينهم الديني.
الشرطي الجيد يطور مهاراته
انطلاقا من هذه المعطيات، وبفضل التكوينات المكثفة لضباط من الشرطة القضائية والفرقة الوطنية والاستعلامات العامة التابعة لمديرية الأمن الوطني وعناصر مديرية مراقبة التراب الوطني العاملين في مختلف المصالح، تمكنت المديرية الأخيرة من بلورة خطة ناجعة وفعالة لتعقب المتطرفين وقطع الطريق على مخططاتها الإرهابية، عرفت فيما بعد بالضربات الاستباقية. هذا دون إغفال ما صاحب ذلك من مواكبة قانونية ودينية واجتماعية في إطار الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الإرهاب التي اعتمدت عدة محاور.
المعلومات المستقاة من التحقيق مع المقاتلين المغاربة بأفغانستان وعناصر القاعدة في العراق ومنطقة الساحل والصحراء، ومن العملاء المشتغلين في الميدان، ومن تتبع أبرز منظري الوهابية والفكر السلفي سيفتح عيون الأجهزة الأمنية على وجوه متطرفة تشتغل خارج التراب الوطني وتشكل الجيل الجديد لجنود الاستقطاب، التي طورت اشتغالها بتوجيه من زعماء القاعدة، ثم فيما بعد تنظيم الدولة الإسلامية بسوريا والعراق.
وقد ساهمت الدورات التكوينية والتداريب، التي تلقاها رجال الأمن والمحققون والمحللون في ضبط نشاط الخلايا الإرهابية وحاملو الفكر المتطرف وامتدت هذه التكوينات أيضا إلى مجال التكنولوجيا الحديثة، الذي أصبح شعبة أمنية لا غنى عنها لما تسمح به من ملاحقة المتطرفين وأموالهم أيضا.
متابعة المستجدات الأمنية والإحاطة بكل جديد ستصبح عقيدة راسخة لدى مصالح الأمن الداخلي المعروفة اختصارا باسم الديستي لاسيما بعد سنة 2005، وهي سنة تعيين ابن الدار عبد اللطيف الحموشي على رأسها. الرجل الملم بملفات الإسلام السياسي وملفات التطرف، كان بدوره قد استفاد من عدة تداريب داخل وخارج المغرب عندما كانت ضابطا ثم عميدا للأمن قبل أن يرتقي بكفاءة في سلم الرتب الأمنية. احتك بالإسلاميين منذ كان طالبا جامعيا بفاس وخبر أفكارهم ووسائل اشتغالهم. الشهادات التي حصل عليها والتكوينات التي ساهم فيها خولت له الولوج إلى عالم التحليل وتدبير الأزمات، لذلك كان شديد الإيمان بأن الشرطي الجيد هو الذي يتلقى تكوينا جيدا ويطور مهاراته باستمرار.
وأولت السلطات الأمنية أهمية قصوى لهذه التدريبات، التي أعطت نتائج مبهرة في مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة، خاصة بعد أن أصبح الحموشي يجمع بين قيادة الديستي ومديرية الأمن الوطني بعد تعيينه من طرف الملك محمد السادس في ماي 2015، ولعل أبرز مثال على اهتمام الرجل بالتكوين، هو تنظيم 117 دورة تكوينية فقط خلال سنة 2018 في إطار التعاون الدولي في مجالات التكوين الشرطي، استفاد منها 1.879 موظفا، وساهم في تنشيطها أطر وخبراء من المملكة المغربية وإسبانيا وفرنسا وألمانيا وإنجلترا والولايات المتحدة الأمريكية. كما تم أيضا في نفس السنة تنظيم ثلاث دورات تكوينية في إطار التعاون الأمني جنوب جنوب، واستفاد منها عمداء وضباط من موظفي الشرطة في كل من جمهورية السودان وإفريقيا الوسطى وغينيا بيساو.
المعلومة الدقيقة.. مفتاح النجاح
الكثير من المغاربة الذين تم استقطابهم إلى بؤر التوتر لم يتم تجنيدهم من المغرب فقط بل من دول أورروبا، التي تعرف انتشارا مهما للجالية المغربية خاصة ببلجيكا وفرنسا وهولندا وإسبانيا وألمانيا وإنجلترا وإيطاليا واليونان أيضا.
ومن هنا بدأت قاعدة البيانات تتوسع لتتجاوز النطاق المحلي والإقليمي إلى النطاق العالمي، الشيء الذي أثار انتباه السلطات الأمنية في دول أخرى للكم الهائل من المعلومات النوعية والتوقعية، التي وضعتها الأجهزة الأمنية رهن إشارة الحرب العالمية على الإرهاب.
هكذا بلورت الأجهزة الأمنية استراتيجيتها لمكافحة الإرهاب وأصبح لعملها صدى عالميا، وبفضل توفيرها لمعلومات دقيقة وذات مصداقية تمكنت عدة دول من تجنب اعتداءات إجرامية في أوروبا وأمريكا وإفريقيا، وهو ما أكده مؤخرا المدير الجديد للمكتب المركزي للأبحاث القضائية في حوار تلفزي مع القناة الثانية عندما كشف أن انخراط المغرب في التعاون الدولي لمكافحة الإرهاب ليس جديدا بل يمتد في الزمن إلى بدايات الحرب على تنظيم القاعدة عندما زود الولايات المتحدة الأمريكية بمعلومات عن أبرز معسكرات أسامة بن لادن بأفغانستان.
المصالح الأمنية ساهمت، بشكل أو بآخر، أيضا في التحقيقات التي أجرتها عدد من الدول التي شهدت اعتداءات إرهابية ففي غشت 2017 وعقب الاعتداء الإرهابي، الذي أودى بحياة 16 شخصا ببرشلونة دهسا باستعمال سيارة، تم عقد عدة لقاءات بين السلطات الأمنية الإسبانية ونظيرتها المغربية. عبد الحق الخيام المدير السابق للبسيج يحكي عن هذه التنسيقات في حوار سابق مع «الأحداث المغربية» بالقول: «بعد أحداث برشلونة، والتي تورط فيها أشخاص من أصول مغربية، كان من الضروري في إطار التنسيق والتعاون، أن نقوم بتحريات من جهتنا في الوقت الذي فتح فيه الأمن الإسباني تحقيقا في الموضوع، بالبحث في محيط المتورطين وهو الشيء نفسه الذي قمنا به، نظرا لأن هؤلاء الأشخاص يقومون بزيارات عائلية للمغرب، وهو ما دفعنا للقيام بعدة تحريات».
ويضيف الخيام: «لقد عملنا في المكتب المركزي للأبحاث القضائية على استدعاء عدة أشخاص، انطلاقا من المعلومات التي توصلنا بها من أصدقائنا الإسبان، فقمنا بإيقاف ثلاثة أشخاص اثنان منهم، تبين أنهما لم تكن لهما علاقة بما وقع في برشلونة، بالنظر للمعلومات التي زودتنا بها السلطات الإسبانية، باستثناء شخص واحد تم إيقافه بالناضور، والذي كان يعيش في برشلونة وهناك تمت استمالته واستقطابه من لدن شبكات التطرف، وهي المعلومات نفسها التي كانت تتوفر عليها السلطات الأمنية الإسبانية، قبل أن يلتحق بشكل نهائي بالمغرب. بعد إيقافه والبحث معه، تبين فعلا أنه شخص متطرف بل أكثر من ذلك يحمل مشروعا إرهابيا، وثبت ذلك من خلال المواقع التي يداوم على ولوجها والتفاعل مع مرتاديها، وعمله بشكل مستمر على محاولة تجنيد عدد من الشبان لتشكيل خلية، علما أن العمل جاري الآن للتعرف على هويتهم. كما أن هذا المتهم ربط علاقة مع قياديين فيما يسمى بدولة الخلافة، وانخرط معهم في تبادل معلومات حول حيازة وصناعة المتفجرات، بعدما قدم البيعة لزعيم تنظيم داعش أبي بكر البغدادي، والأكثر من ذلك قام بمباركة أحداث برشلونة علنا على مواقع الدردشة مع الأشخاص الذين كان يجندهم».
الاعتراف الدولي بخبرة الأجهزة الأمنية في مكافحة الإرهاب وتوفير المعلومة في إطار التعاون مع سلطات العديد من الدول لم يبق حبيس مقرات الأمن والاستخبارات والدوائر الحكومية، بل كان محط اهتمام جدي تمت ترجمته أكثر من مرة من خلال توشيح عبد اللطيف الحموشي في إسبانيا. وكان آخر اعتراف بذلك هو الامتنان الذي عبر عنه الولايات المتحدة الأمريكية من خلال مكتب التحقيق الفدرالي ووكالة المخابرات المركزية، عقب اعتقال الجندي الأمريكي